كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قالت} لهم {يا أيها الملأ} ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها: {أفتوني} أي: تكرّموا عليّ بالإنابة عما أفعله {في أمري} هذا الذي أجيب به هذا الكتاب جعلت الشورى فتوى توسعًا، لأنّ الفتوى الجواب في الحادثة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة واوًا، والباقون بتحقيقها وفي الابتداء الجميع بالتحقيق.
ثم عللت أمرها لهم بقولها {ما كنت قاطعة أمرًا} أي: فاعلته وفاصلته غير متردّدة فيه {حتى تشهدون} أفادت بذلك أن شأنها دائمًا مشاورتهم في كل جليل وحقير فكيف بهذا الأمر الخطير، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم ودلالة على غزارة عقلها وحسن أدبها، ثم إنهم أجابوها عن ذلك بأن.
{قالوا} مائلين إلى الحرب {نحن أولو قوّة} أي: بالمال والرجال {وأولو} أي: أصحاب {بأس} عزم في الحرب {شديد والأمر} أي: في كل من المصادمة والمسالمة راجع وموكول {إليك فانظري} أي: بسبب أنه لا نزاع معك {ماذا تأمرين} فإنا نطيعك ونتبع أمرك، ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده.
{قالت} جوابًا لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب والحرب سجال لا يدري عاقبتها {إن الملوك} أي: مطلقًا فكيف بهذا النافذ الأمر، العظيم القدر {إذا دخلوا} عنوة بالقهر {قرية أفسدوها} أي: بالنهب والتخريب {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} أي: أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر، ثم أكدت هذا المعنى بقولها {وكذلك} أي: ومثل هذا الفعل العظيم الشأن {يفعلون} أي: هو خلق لهم مستمرّ في جميعهم فكيف بمن تطيعه الوحوش والطيور وغيرهما.
تنبيه:
هذه الجملة من كلامها وهو كما قال ابن عادل الظاهر، ولهذا جبلت عليه فتكون منصوبة بالقول، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تصديقًا لها فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب، وهي معترضة بين قولها. ولما بينت ما في المصادمة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها.
{وإني مرسلة إليهم} أي: إلى سليمان وقومه {بهدية} وهي العطية على طريق الملاطفة، وذلك أن بلقيس كانت امرأة كيسة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية أصانعه بها عن ملكي فاختبره بها أملك هو أم نبي؟ فإن يكن ملكًا قبل الهدية وانصرف، وإن يكن نبيًا لم يقبل الهدية ولم يرضها منا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قولها {فناظرة بم} أي: أيّ شيء {يرجع المرسلون} فأهدت إليه وصفًا ووصائف، قال ابن عباس: ألبستهم لباسًا واحدًا كي لا يعرف ذكرًا من أنثى، وقال مجاهد ألبست الجواري لباس الغلمان وألبست الغلمان لباس الجواري، واختلف في عددهم: فقال ابن عباس: مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال مجاهد ومقاتل: مائة غلام ومائتا جارية، وقال قتادة: أرسلت إليه بلبنات من ذهب في حرير وديباج، وقال ثابت البناني: أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج، وقيل: كانت أربع لبنات من ذهب، وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لباس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب وفي أعناقهم أطواقًا من ذهب وفي آذانهم أقراطًا وشنوفًا مرصعات بأنواع الجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة من فضة وتاجًا مكللًا بالدر والياقوت المرتفع وأرسلت المسك والعنبر وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجذعة لعلها مثقوبة معوّجة الثقب ودعت رجلًا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالًا من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معهم كتابًا بنسخة الهدية.
وقالت: إن كنت نبيًا فميز بين الوصف والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقبًا مستويًا، وأدخل خيطًا في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ، وأمرت بلقيس الغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرجل انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشاشًا لطيفًا فاعلم أنه نبيّ مرسل، فتفهم قوله ورد الجواب.
فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعًا إلى سليمان فأخبره الخبر كله فأمر سليمان عليه السلام الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانًا واحدًا بلبنات الذهب والفضة وأن يجعلوا حول الميادين حائطًا شرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال أيّ الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر قالوا يا نبيّ الله إنا رأينا دوابّ في مجر كذا وكذا منقطة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال عليّ بها الساعة، فأتوابها فقال شدّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة وألقوا لها علوفتها فيها، ثم قال للجنّ عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي على يمينه ومثلها على يساره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفًا فراسخ وأمر الإنس فاصطفوا صفوفًا فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره.
فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تقاصرت أنفسهم ورموا ما معهم من الهدايا، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعًا على قدر موضع اللبنات التي معهم فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليًا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك الموضع الخالي فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ففزعوا، فقالت لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرّون على كردوس من الجنّ والإنس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظرًا حسنًا بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال أين الحقة؟ فأتى بها فحركها وجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما في الحقة فقال: إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوّجة الثقب، فقال الرسول صدقت فاثقب الدرّة وأدخل الخيط في الخرزة، فقال سليمان عليه السلام من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجنّ فلم يكن عندهم علم بذلك ثم سأل الشياطين فقالوا أرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت تصير رزقي في الشجرة فقال لك ذلك، وروي أنها جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف فجعل لها ذلك، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر، ثم قال من لهذه الخرزة بسلكها بالخيط فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت: تجعل رزقي في الفواكه قال لك ذلك، ثم ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه، والغلام يأخذ من الآنية بيديه ويضرب بهما وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها، والغلام على ظاهر الساعد وكانت الجارية تصبّ الماء صبًا، وكان الغلام يحدر الماء على ساعده حدرًا، فميز بينهم بذلك، ثم ردّ سليمان الهدية كما قال تعالى: {فلما جاء} أي: الرسول الذي بعثته، والمراد به الجنس، قال أبو حيان وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث {سليمان} ورفع إليه ذلك {قال} أي: سليمان عليه السلام للرّسول ولمن في خدمته استصغارًا لما معه {أتمدّونني} أي: أنت ومن معك ومن أرسلك {بمال} وإنما قصدي لكم لأجل الدين تحقيرًا لأمر الدنيا وإعلامًا بأنه لا التفات له نحوها بوجه ولا يرضيه شيء دون طاعة الله تعالى، وقرأ نافع وأبو عمرو: بإثبات الياء وصلًا لا وقفًا، وابن كثير: بإثبات الياء وصلًا ووقفًا، وحمزة بإدغام النون الأولى في الثانية وإثبات الياء وصلًا ووقفًا، ثم تسبب عن ذلك قوله استصغارًا لما معهم {فما آتاني الله} أي: الملك الأعظم من الحكمة والنبوّة والملك، وهو الذي يغني مطيعه عن كل شيء سواه فمهما سأله أعطاه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص: بفتح الياء في الوصل، ولقالون وأبي عمرو وحفص أيضًا إثباتها وقفًا، والباقون بحذف الياء وقفًا ووصلًا، وأمالها حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين {خير} أي: أفضل {مما آتاكم} أي: من الملك الذي لا دين ولا نبوّة فيه {بل أنتم} أي: بجهلكم بالدين {بهديتكم} أي: بإهداء بعضكم إلى بعض {تفرحون} وأمّا أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي لأنّ الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحدًا، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوّة، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد.
{ارجع} أي: بهديتهم وجمع في قوله: {إليهم} إكرامًا لنفسه وصيانة لاسمها عن التصريح بضميرها وتعظيمًا لكل من يهتم بأمرها ويطيعها {فلنأتينهم بجنود لا قبل} أي: لا طاقة {لهم بها} أي: بمقابلتها {ولنخرجنهم منها} أي: من أرضهم وبلادهم وهي سبأ {أذلة وهم صاغرون} أي: ذليلون لا يملكون شيئًا من المنعة.
فإن قيل: فلنأتينهم ولنخرجنهم قسم فلابد أن يقع؟
أجيب: بأنه معلق على شرط محذوف لفهم المعنى، أي: إن لم يأتونى مسلمين، قال وهب وغيره من أهل الكتب، لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت لهم قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به من طاقة فبعثت إلى سليمان أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعلته داخل سبعة أبواب داخل قصرها وقصرها داخل سبعة قصور وأغلقت الأبواب وجعلت عليها حرّاسًا يحفظونه، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما وكلتك وبسرير ملكي لا يخلص إليه أحد حتى آتيك، ثم أمرت مناديًا ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل وتجهزت للمسير فارتحلت في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يد كل قيل ألوف كثيرة.
قال ابن عباس: كان سليمان رجلًا مهيبًا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يومًا فجلس على سرير ملكه فرأى رهجًا قريبًا منه، فقال ما هذا؟ قالوا بلقيس وقد نزلت منا على مسيرة فرسخ، فأقبل سليمان حينئذ على جنوده بأن.
{قال} لهم {يا أيها الملأ} أي: الأشراف {أيكم} وفي الهمزتين ما تقدم {يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} أي: مؤمنين، وقال ابن عباس: واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها فقال أكثرهم: لأنّ سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها، وقيل: ليريها قدرة الله تعالى ببعض ما خصه به من العجائب الدالة على عظيم القدرة وصدقه في دعوى النبوّة في معجزة يأتي بها في عرشها، وقال قتادة: لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد بالعظم فأحبّ أن يراه، وقال ابن زيد: يريد أن يأمر بتنكيره وتغييره فيختبر بذلك عقلها.
{قال عفريت من الجن} وهو المارد القوي، قال وهب: اسمه كودي، وقيل: ذكوان، وقال ابن عباس العفريت الداهي، وقال الضحاك: هو الخبيث، وقال الربيع: الغليظ، وقال الفراء: القويّ الشديد، قيل: إنّ الشياطين أقوى من الجنّ وأنّ المردة أقوى من الشياطين وأنّ العفريت أقوى منهما، قال بعض المفسرين العفريت من الرجال الخبيث المتكبر، وقيل: هو صخر الجني وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه، وقوله تعالى: {أنا آتيك به} قرأه في الموضعين نافع بإثبات الألف من أنا وصلًا ووقفًا، والباقون وصلًا لا وقفًا، ثم بيّن سرعة إسراعه بقوله: {قبل أن تقوم من مقامك} أي: الذي تجلس فيه للقضاء، قال ابن عباس: كان له غداة كل يوم مجلس يقضي فيه إلى نصف النهار، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله: {وإني عليه} أي: على الإتيان به سالمًا {لقويّ} أي: على حمله لا يحصل عجزي عنه {أمين} أي: على ما فيه من الجواهر وغيرها، قال سليمان عليه السلام أريد أسرع من ذلك.
{قال الذي عنده علم من الكتاب} المنزل وهو علم الوحي والشرائع، وقيل: كتاب سليمان، وقيل: اللوح المحفوظ، والذي عنده علم من الكتاب جبريل، قال البقاعي ولعله التوراة والزبور انتهى، وفي ذلك إشارة إلى أنّ من خدم كتاب الله حق الخدمة كان الله تعالى معه، كما ورد في شرعنا «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويديه التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها» أي: أنه يفعل له ما يشاء.